…عبد الله مكي يكتب: يوليو 76 في الذكرى (45) التوازن بين العمل العسكري والفعل السياسي (1)

الخرطوم : الموقع والهجوم

منذ أن عُيّن عثمان باشا (سر عسكر) بدلاً من الدفتردار، أُعجب بالمنطقة التي يقترن فيها النيل الأبيض والأزرق، فوضع عدداً من الجند وبنى قلعة لهم في ديسمبر 1824م، وبقي فيها واتخذها عاصمة لهم، بدلاً من مدينتي (ود مدني وسنار) وذلك  لكثرة الأمطار فيهما وسوء الأحوال الصحية.

لكن موقع الخرطوم المتميز (مقرن النيلين) ووضعها الصحي الجيد وهدوئها النسبي لم يسلمها من الهجمات وإن كانت قليلة، طالما أصبحت عاصمة البلاد.

أول هجوم أو إقتحام: تعرضت له الخرطوم كان من قبل قوات الإمام المهدي وذلك في26\2\1885م، وهو اليوم الذي دخلت فيه هذه القوات، وفي الكتابات التاريخية  يسمى (دخول الخرطوم) أو (فتح الخرطوم) أو (سقوط الخرطوم) وذلك حسب تحيز الكاتب.

الهجوم الثاني: كان هو دخول الإنجليز إلى السودان عبر البوابة الشمالية، فبعد مرورهم بحلفا ودنقلا وكورتي وبربر وعطبرة وشندي، كان لابد لهم من الإستيلاء على (الخرطوم) حتى يتمكنوا من حكم جميع أنحاء البلاد، فاختار الخليفة عبد الله التعايشي أن تكون المواجهة خارج أمدرمان فكانت موقعة كرري المشهورة في 2\9\1898م، فاستباح الإنجليز أمدرمان لمدة ثلاثة أيام، وحسب لغة العصر يُمكن إعتبارها (جريمة إبادة جماعية) تستوجب محاكمة ومحاسبة الدولة البريطانية وتستوجب الإعتذار وتعويض الضحايا.

أما الهجوم الثالث: فكان في 2\7\1976م فلأول مرة يغزو أو يهاجم العاصمة الخرطوم معارضون سودانيون (مقاتلو الجبهة الوطنية) والتي تضم (الإخوان المسلمون وحزب الأمة والحزب الإتحادي الديموقراطي) هاجموا حكومة سودانية (حكومة مايو) والتي إستولت على الحكم بإنقلاب عسكري في 25\5\1969م بقيادة جعفر محمد نميري.

الهجوم الرابع والأخير: كان في 10\5\2008م قامت به حركة العدل والمساواة بقيادة د. خليل إبراهيم ضد(حكومة البشير).

حركة 2 يوليو 1976

مرت الذكرى الخامسة والأربعون لحركة الثاني من يوليو 1976 مروراً خفيفاً، وظلت مطوية منسية، بالرغم من أن هذه الذكرى هامة ومفصلية لبلادنا وتاريخهاالسياسي الحديث. 

العملية العسكرية التي بدأ التفكير فيها عقب أحداث الجزيرة ابا ونُفذت صباح الجمعة 2 يوليو 1976م.كانت ذات ثلاثة أضلاع : ضلع عسكري تابع للجبهة الوطنية، وضلع ثانٍ من كبار الضباط بالقوات المسلحة، وضلع ثالث سياسي وتعبوي للأحزاب السياسية المشاركة في الجبهة الوطنية.

خطة الصدمة

ومعروف أن خطط الحركة وضعها سياسيون وعسكريون، وتقوم على إحداث صدمات متتالية، الصدمة الأولى يقوم بها الضباط الموالون للحركة داخل القوات المسلحة، ثم ينضم اليهم في الصدمة الثانية، المقاتلون الذين تلقوا التدريب في المعسكرات.

ويقول الأمير أحمد سعد عمر : إن هذه الخطة تغيرت في آخر ثلاثة أيام بسبب اعتقال المرشح الأول لقيادة العملية العميد سعد بحر ومجموعته مما قاد لأن يرتكز تنفيذ الخطة على مقاتلي المعسكرات فأُوكلت مواقع لمجموعة من شباب الحركة الاسلامية نفذوا الاقتحام في دار الهاتف والمطار والاتصالات.

وأيضا حدث تطور آخر مرتبط بالتوقيت أثّر على سير العملية إذ كان من المفترض ـ والحديث لعمر ـ أن تنفذ العملية بعد مغرب يوم الخميس، ولكن بعض المعوقات اللوجستية أدت إلى دخول القوات إلى الخرطوم صباح الجمعة.

رواية مبارك الفاضل

وبحسب رواية مبارك الفاضل المهدي الذي قال في حوار أُجري معه في الذكرى الثلاثين لحركة يوليو، أن توزيع الأدوار لقيادات الجبهة الوطنية كان الآتي: السيد الصادق المهدي يبقى في لندن تحت غطاء أكاديمي وبأن لديه دراسات في جامعة اكسفورد، و. د.عمر نور الدائم وعثمان خالد مضوي بطرابلس على أساس أن لهما نشاط سياسي، والشريف حسين الهندي وبحكم تكوينه غير الميال للعمل العلني والظهور، دائما لا يعلن عن مكانه ولا عنوانه، أوكلت إليه مهمة الاشراف على المعسكرات.. وظل الهندي لصيقاً بالعمل العسكري داخل المعسكرات ومشرفاً عليه.

نجاح الحركة

ونجحت الحركة في الاستيلاء على مواقع هامة بالعاصمة الخرطوم، بعد معارك دارت في يوم الجمعة الثاني من يوليو، وبدخولها الخرطوم استولت على عدة مواقع في وادي سيدنا شمالاً وسلاح المدرعات في الخرطوم جنوباً ثم مروراً بالإذاعة والتلفزيون وسلاح المهندسين والدفاع الجوي والسلاح الطبي ثم القيادة العامة والتي لم يستطع القائد محمد نور سعد الوصول إليها لقيادة وحدات السودان منها مما كان سبباً من الأسباب التي جعلت النجاح يتحول إلى فشل.

غياب الحكومة واختفاء النميري

بعد أن استولت الحركة على العاصمة الخرطوم لمدة ثلاثة أيام، غابت الحكومة ورئيسها النميري عن المشهد تماماً، يقول الأستاذ بكري الصائغ بصحيفة الراكوبة: “وطوال ثلاثة أيام وهي المدة التي وقعت فيها الخرطوم تحت سيطرتهم، أي (قوات الجبهة الوطنية) ماكان هناك حس أو خـبر لحكومة الخرطوم…ولايعرف أحد أين نمـيري و نائبه الاول!!.”. ويُقال إن مكان اختباءه كان عند احدي الأسر السودانية. وعن حالة الرئيس نميري بعد ظهوره لأول مرة بعد ثلاثة أيام من الغزو(أي يوم الخامس من يوليو، يقول بكري الصائغ: “وبعـدها جــاء صـوت نـمـيـري …وكان في حالة يرثى لها، وواضحة عليه علامات الإنهاك والتعب الشديد، وفي حـالة عـصـبيـة مـريعـة، وراح يـؤكـد ان البلاد تعـرضـت لغـزو (مـرتـزقة) جـاءوا مـن ليبـيا لتقليـب الـوضـع وأن هـؤلاء (الـمـرتزقـة) مـازالـوا بالعـاصـمة الـمثلثة… ودعـا نـمـيـري جـنـوده وضـباطـه للقضـــــاء عـليـهـم تمامآ!!!.

أسباب الفشل

 يُعتقد أنه من الأسباب المهمة التي أفشلت حركة يوليو غياب الإعلام، فالمعارضة بالداخل لم تقم بإعداد آليات التعريف أوإعداد بديل للإذاعة التي توقفت وفر العاملون منها ولذلك فإن الحكومة نجحت في نعتها بـ(المرتزقة) مما دفع الجيش السوداني لمواجهتها بشراسة على أساس أنها قوات أجنبية تريد غزو السودان ومما حدا بالشعب الى الوقوف لجانب النظام أو على الحياد. وصدّق الناس ذلك إذ أنهم لم يسمعوا بياناً أو توضيحاً لهذه القوة او الحملة التي دخلت السودان ولا يعرفونها ولا يعرفون قياداتها والتي غادر بعض منها السودان قبل فترة طويلة ولم يسمع بهم أحد(حيث لا تُوجد قنوات فضائية أو وسائط إعلامية أو مواقع للتواصل الاجتماعي) كما يحدث اليوم.

 ورغم ذلك استمرت معارك جزئية وفي مواقع متعددة لم تستسلم ولكن عدم  الاتصال فيما بينها أو مع قياداتها كان سبباً في إخمادها ودحرها، مما أدّى لقيام مجازر في داخل العاصمة وخارجها راح ضحيتها عدد كبير من المهاجمين والمواطنين الأبرياء.

ويُؤكد الكثيرون أن الحماس الطاغي الذي أبداه الجيش في مجابهة حركة يوليو 76 انما يعزى أساساً لتحدي (مجموعة مدنية غير نظامية) لجيش نظامي… كان الأمر بالنسبة للجيش أمر كرامة وشرف عسكري أكثر منه تأكيدأً للالتزام بالنظام القائم أو رئيسه.

القيادي الاتحادي حسن دندش يحدد أسباب للفشل

وتحدث القيادي الاتحادي الراحل حسن دندش عن سبعة أسباب أدت لفشل الحركة :

أولاً: كان مقرراً في الخطة فتح سجن كوبر واطلاق سراح سعد بحر وأنس عمر وضباط صف طواقم دبابات حركة حسن حسين عثمان التي كانت في 5 سبتمبر 1975م.

ثانيا:  كان مقرراً أن يرتدي المقاتلون الملابس العسكرية التي تشبه زي القوات المسلحة السودانية حيث ظل الزي قابعاً في“الحفرة“ التي دفن بها في غرب أم درمان.

ثالثا: كان مقرراً أن تحمل سيارة الاذاعة التي كان مداها (1600 كيلومتر) وتشغيلها في حالة عدم القدرة على تشغيل اذاعة أم درمان .

رابعا: أدّى تأخير ساعة الصفر للاشتباك العسكري الذي حدث عند بوابة النيل الأبيض مع وحدات سلاح المهندسين مما أدّى إلى تأخير وصول القوات التي كان مقرراً لها الاستيلاء على اللواء الأول والثاني مدرعات الشجرة.

خامسا: كانت هنالك مجموعة من شباب الاخوان المسلمين في منطقة اللاماب بحر أبيض يفترض تسليمهم كميات من الأسلحة للقضاء على نميري ومن معه بمطار الخرطوم. مما أدّى إلى تعثرهم في الوصول للمطار في الوقت المناسب الذي حطت فيه طائرة النميري قبل نصف ساعة من موعدها وكان مقررا القضاء عليه فور النزول من طائرته.

سادسا: هنالك عدد كبير من الضباط في الخدمة داخل القوات المسلحة كان من المفترض مشاركتهم في حركة يوليو ولكن لم يتم اخطارهم بساعة الصفر على سبيل المثال منهم العقيد محمد ادريس هباني وآخرين.

وأيضاً تخبط المدنيين المسلحين الذين شاركوا في القتال وجهلهم بجغرافية العاصمة.

في الحلقة الثانية :

ما هي أسباب الفشل حسب تقارير جهاز أمن النميري ؟

وهل شاركت عناصر غير سودانية في حركة يوليو 76 ؟

Related posts